فصل: تفسير الآيات رقم (5- 9)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏66- 77‏]‏

‏{‏وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ ‏(‏66‏)‏ وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ ‏(‏67‏)‏ قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ ‏(‏68‏)‏ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ ‏(‏69‏)‏ قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ ‏(‏70‏)‏ قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ‏(‏71‏)‏ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ‏(‏72‏)‏ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ ‏(‏73‏)‏ فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ ‏(‏74‏)‏ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ‏(‏75‏)‏ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ ‏(‏76‏)‏ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏77‏)‏‏}‏

المعنى ‏{‏وقضينا ذلك الأمر‏}‏ أي أمضيناه وختمنا به، ثم أدخل في الكلام ‏{‏إليه‏}‏ من حيث أوحى ذلك إليه وأعلمه الله به فجلب هذا المعنى بإيجاز وحذف ما يدل الظاهر عليه و‏{‏أن‏}‏ في موضع نصب، قال الأخفش‏:‏ هي بدل من ‏{‏ذلك‏}‏، وقال الفراء‏:‏ بل التقدير «بأن دابر» فحذف حرف الجر، والأول أصوب، و«الدابر» الذي يأتي آخر القوم أي في أدبارهم، وإذا قطع ذلك وأتى عليه فقد أتى العذاب من أولهم إلى آخرهم، وهذه ألفاظ دالة على الاستئصال والهلاك التام، يقال قطع الله دابره واستأصل شأفته وأسكت نأمته بمعنى‏.‏ و‏{‏مصبحين‏}‏ معناه إذا أصبحوا ودخلوا في الصباح، وقوله ‏{‏وجاء أهل المدينة‏}‏، يحتمل أن رجع الوصف أمر جرى قبل إعلام لوط بهلاك أمته، ويدل على هذا أن محاجة لوط لقومه تقتضي ضعف من لم يعلم إهلاكهم، وأن الأضياف ملائكة، ويحتمل قوله ‏{‏وجاء أهل المدينة‏}‏ أن يكون بعد علمه بهلاكهم، وكان قوله ما يأتي من المحاورة على جهة التهكم عنهم والإملاء لهم والتربص بهم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والاحتمال الأول عندي أرجح، وهو الظاهر من آيات غير هذه السورة، وقوله ‏{‏يستبشرون‏}‏ أي بالأضياف طمعاً منهم في الفاحشة، و«الضيف» مصدر وصف به، فهو يقع للواحد والجميع والمذكر والمؤنث، وقولهم ‏{‏أو لم ننهك عن العالمين‏}‏ روي أنهم قد تقدموا إليه في أن لا يضيف أحداً ولا يجيره، لأنهم لا يراعونه ولا يكتفون عن طلب الفاحشة فيه، وقرأ الأعمش «إن دابر» بكسر الهمزة وروي أن في قراءة عبد الله «وقضينا إليه ذلك الأمر وقلنا إن دابر هؤلاء مقطوع»، وذكر السدي أنهم إنما كانوا يفعلون الفاحشة مع الغرباء ولا يفعلونها بعضهم ببعض، فكانوا يعترضون الطرق، وقول لوط عليه السلام ‏{‏هؤلاء بناتي‏}‏ اختلف في تأويله، فقيل أراد نساء أمته لأن زوجات النبيين أمهات الأمم وهو أبوهم فالنساء بناته في الحرمة والمراد بالتزويج، ويلزم هذا التأويل أن يكون في شرعه جواز زواج الكافر للمؤمنة، وقد ورد أن المؤمنات به قليل جداً، وقيل إنما أراد بنات صلبه ودعا إلى التزويج أيضاً قاله قتادة ويلزم هذا التأويل أيضاً ما لزم المتقدم في ترتيبنا‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويحتمل أن يريد بقوله عليه السلام هؤلاء بناتي بنات صلبه، ويكون ذلك على طريق المجاز، وهو لا يحقق في إباحة بناته وهذا كما تقول لإنسان تراه يريد قتل آخر اقتلني ولا تقتله فإنما ذلك على جهة التشنيع عليه والاستنزال من جهة ما واستدعاء الحياء منه، وهذا كله من مبالغة القول الذي لا يدخله معنى الكذب بل الغرض منه مفهوم، وعليه قول النبي عليه السلام

«ولو كمفحص قطاة»، إلى غير هذا من الأمثلة و«العَمر» و«العُمر» بفتح العين وضمها واحد، وهما مدة الحياة، ولا يستعمل في القسم إلا بالفتح، وفي هذه الآية شرف لمحمد عليه السلام لأن الله تعالى أقسم بحياته ولم يفعل ذلك مع بشر سواه، قاله ابن عباس‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والقسم ب ‏{‏لعمرك‏}‏ في القرآن، وب «لعمري» ونحوه في أشعار العرب وفصيح كلامها في غير موضع‏.‏

كقوله‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

لعمري وما عمري عليَّ بهين *** وقوله الآخر‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

لعمر أبيك ما نسب المعالي *** وكقول الآخر‏:‏ ‏[‏طرفة بن العبد‏]‏ ‏[‏الطويل‏]‏

لعمرك إن الموت ما أخطأَ الفتى *** لكالطِّوَلِ المرخى وثنياه باليد

والعرب تقول لعمر الله، ومنه قول الشاعر‏:‏

إذا رضيت عليَّ بنو قشير *** لعمر الله أعجبني رضاها

وقال الأعشى‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

ولعمر من جعل الشهور علامة *** فيها فبين نصفها وكمالها

ويروى وهلالها، وقال بعض أصحاب المعاني، لا يجوز هذا لأنه لا يقال لله تعالى عمر، وإنما يقال بقاء أزلي ذكره الزهراوي، وكره إبراهيم النخعي أن يقول الرجل لعمري لأنه حلف بحياة نفسه، وذلك من كلام ضعفة الرجال، ونحو هذا، قول مالك في «لعمري» و«لعمرك» أنها ليست بيمين، وقال ابن حبيب ينبغي أن تصرف ‏{‏لعمرك‏}‏ في الكلام اقتداء بهذه الآية، و‏{‏يعمهون‏}‏ يرتبكون ويتحيرون، والضمائر في ‏{‏سكرتهم‏}‏ يراد بها قوم لوط المذكورون، وذكر الطبري أن المراد قريش، وهذا بعيد لأنه ينقطع مما قبله ومما بعده، وقوله ‏{‏لفي سكرتهم‏}‏ مجاز وتشبيه، أي في ضلالتهم وغفلتهم وإعراضهم عن الحق ولهوهم، و‏{‏يعمهون‏}‏ معناه يتردون في حيرتهم، و‏{‏مشرقين‏}‏ معناه قد دخلوا في الإشراق وهو سطوع ضوء الشمس وظهوره قاله ابن زيد‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذه «الصيحة» هي صيحة الوجبة وليست كصيحة ثمود، وأهلكوا بعد الفجر مصبحين واستوفاهم الهلاك مشرقين، وخبر قوله ‏{‏لعمرك‏}‏ محذوف تقديره لعمرك قسمي أو يميني، وفي هذا نظر، وقرأ ابن عباس و«عمرك»، وقرأ الأشهب العقيلي «لفي سُكرتهم» بضم السين، وقرأ ابن أبي عبلة «لفي سكراتهم»، وقرأ الأعمش «لفي سكرهم» بغير تاء، وقرأ أبو عمرو في رواية الجهضمي «أنهم في سكرتهم» بفتح الألف، وروي في معنى قوله ‏{‏جعلنا عاليها سافلها‏}‏ أن جبريل عليه السلام اقتلع المدينة بجناحيه ورفعها حتى سمعت ملائكة السماء صراخ الديكة ونباح الكلاب ثم قلبها وأرسل الكل، فمن سقط عليه شيء من جرم المدينة مات، ومن أفلت منهم أصابته ‏{‏حجارة من سجيل‏}‏، و‏{‏سجيل‏}‏ اسم من الدنيا، وقيل لفظة فارسية، وهي الحجارة المطبوخة من الطين كالآجر ونحوه، وقد تقدم القول في هذا و«المتوسمون» قال مجاهد المتفرسون، وقال الضحاك الناظرون، وقال قتادة المعتبرون، وقيل غير هذا مما هو قريب منه، وهذا كله تفسير بالمعنى، وأما تفسير اللفظة فإن المعاني التي تكون في الإنسان وغيره من خير أو شر يلوح عليه وسم عن تلك المعاني، كالسكون والدماثة واقتصاد الهيئة التي تكون عن الخير ونحو هذا، فالمتوسم هو الذي ينظر في وسم المعنى فيستدل به على المعنى، وكأن معصية هؤلاء أبقت من العذاب والإهلاك وسماً، فمن رأى الوسم استدل على المعصية به واقتاده النظر إلى تجنب المعاصي لئلا ينزل به ما نزل بهم، ومن الشعر في هذه اللفظة قول الشاعر‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

توسمته لما رأيت مهابة *** عليه وقلت المرء من آل هاشم

وقال آخر‏:‏

فظللت فيها واقفاً أتوسم *** وقال آخر‏:‏

إني توسمت فيك الخير نافلة *** والضمير في قوله ‏{‏وإنها‏}‏ يحتمل أن يعود على المدينة المهلكة؛ أي أنها في طريق ظاهر بين للمعتبر، وهذا تأويل مجاهد وقتادة وابن زيد، ويحتمل أن يعود على الآيات، ويحتمل أن يعود على الحجارة، ويقوي هذا التأويل ما روي أن النبي عليه السلام قال‏:‏ «إن حجارة العذاب معلقة بين السماء والأرض منذ ألفي سنة لعصاة أمتي»، وقوله ‏{‏الآية‏}‏ أي أمارة وعلامة كما تقول آية ما بيني وبينك كذا وكذا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏78- 86‏]‏

‏{‏وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ ‏(‏78‏)‏ فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ ‏(‏79‏)‏ وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏80‏)‏ وَآَتَيْنَاهُمْ آَيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ ‏(‏81‏)‏ وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آَمِنِينَ ‏(‏82‏)‏ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ ‏(‏83‏)‏ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏84‏)‏ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ‏(‏85‏)‏ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ‏(‏86‏)‏‏}‏

‏{‏الأيكة‏}‏ الغيضة والشجر الملتف المخضر يكون السدر وغيره، قال قتادة، وروي أن أيكة هؤلاء كانت من شجر الدوم، وقيل من المقل، وقيل من السدر، وكان هؤلاء قوماً يسكنون غيضة ويرتفقون بها في معايشهم فبعث الله إليهم شعيباً فكفروا فسلط الله عليهم الحر فدام عليهم سبعة أيام ثم رأوا سحابة فخرجوا فاستظلوا تحتها فاضطرمت عليهم ناراً، وحكى الطبري قال‏:‏ بعث شعيب إلى أمتين كفرتا فعذبتا بعذابين مختلفين‏:‏ أهل مدين عذبوا بالصيحة، و‏{‏أصحاب الأيكة‏}‏، ولم يختلف القراء في هذا الموضع في إدخال الألف واللام على «أيكة»، وأكثرهم همز ألف أيكة بعد اللام، وروي عن بعضهم أنه سهلها ونقل حركتها إلى اللام فقرأ «أصحاب الأيكة» دون همز، واختلفوا في سورة الشعراء وفي صورة ص، و‏{‏إن‏}‏ هي المخففة من الثقيلة على مذهب البصريين، وقال الفراء ‏{‏إن‏}‏ بمعنى ما، واللام في قوله ‏{‏لظالمين‏}‏ بمعنى إلا‏.‏ قال أبو علي‏:‏ الأيك جمع أيكة كترة وتمر‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ومن الشاهد على اللفظة قول أمية بن أبي الصلت‏:‏

كبكاء الحمام على غصون الأي *** ك في الطير الجوانح

ومنه قول جرير‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

وقفت بها فهاج الشوق مني *** حمام الأيك يسعدها حمام

ومنه قول الآخر‏:‏

ألا إنما الدنيا غضارة أيكة *** إذا اخضرَّ منها جانب جف جانب

ومنه قول الهذلي‏:‏

موشحة بالطرتين دنا لها *** جنا أيكةٍ تضفو عليها قصارها

وأنشد الأصمعي‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

وما خليج من المروت ذو حدب *** يرمي الصعيد بخشب الأيك والضال

والضمير في قوله ‏{‏وإنهما‏}‏ يحتمل أن يعود على المدينتين اللتين تقدم ذكرهما‏:‏ مدينة قوم لوط، ومدينة أصحاب الأيكة، ويحتمل أن يعود للنبيين‏:‏ على لوط وشعيب، أي أنهما على طريق من الله وشرع مبين‏.‏ و«الإمام» في كلام العرب الشيء الذي يهتدي به ويؤتم، يقولونه لخيط البناء، وقد يكون الطريق، وقد يكون الكتاب المفيد، وقد يكون القياس الذي يعمل عليه الصناع، وقد يكون الرجل المقتدى به، ونحو هذا، ومن رأى عود الضمير في ‏{‏إنهما‏}‏ على المدينتين قال «الإمام» الطريق، وقيل على ذلك «الإمام» الكتاب الذي سبق فيه إهلاكهما، و‏{‏أصحاب الحجر‏}‏ هم ثمود، وقد تقدم قصصهم، و‏{‏الحجر‏}‏ مدينتهم، وهي ما بين المدينة وتبوك، وقال ‏{‏المرسلين‏}‏ من حيث يجب بتكذيب رسول واحد تكذيب الجميع، إذ القول في المعتقدات واحد للرسل أجمع، فهذه العبارة أشنع على المكذبين، و«الآية» التي آتاهم الله في الناقة وما اشتملت عليه من خرق العادة حسبما تقدم تفسيره وبسطه، وقرأ أبو حيوة «وآتيناهم آيتنا» مفردة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكانوا ينحتون‏}‏ الآية، يصف قوم صالح بشدة النظر للدنيا والتكسب منها فذكر من ذلك مثالاً أن بيوتهم كانوا ينحتونها من حجر الجبال، و«النحت» النقر بالمعاول ونحوها في الحجارة والعود ونحوه، وقرأ جمهور الناس «ينحِتون» بكسر الحاء، وقرأ الحسن «ينحَتون» بفتحها، وذلك لأجل حرف الحلق، وهي قراءة أبي حيوة، وقوله ‏{‏آمنين‏}‏ قيل معناه من انهدامها، وقيل من حوادث الدنيا، وقيل من الموت لاغترارهم بطول الأعمال‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا كله ضعيف، وأصح ما يظهر في ذلك أنهم كانوا يأمنون عواقب الآخرة‏.‏ فكانوا لا يعملون بحسبها، بل كانوا يعملون بحسب الأمن منها، ومعنى ‏{‏مصبحين‏}‏ أي عند دخولهم في الصباح، وذكر أن ذلك كان يوم سبت، وقد تقدم قصص عذابهم وميعادهم وتغير ألوانهم، ولم تغن عنهم شدة نظرهم للدنيا وتكسبهم شيئاً، ولا دفع عذاب الله، و‏{‏ما‏}‏ الأولى تحتمل النفي وتحتمل التقرير، والثانية مصدرية، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما خلقنا السماوات والأرض‏}‏ الآية، المراد أن هؤلاء المكتسبين للدنيا الذين لم يغن عنهم اكتسابهم ليسوا في شيء، فإن السماوات والأرض وجميع الأشياء لم تخلق عبثاً ولا سدى، ولا لتكون طاعة الله كما فعل هؤلاء ونظراؤهم، وإنما خلقت بالحق ولواجب مراد وأغراض لها نهايات من عذاب أو تنعيم ‏{‏وإن الساعة لآتية‏}‏ على جميع أمور الدنيا، أي فلا تهتم يا محمد بأعمال قومك فإن الجزاء لهم بالمرصاد، ‏{‏فاصفح‏}‏ عن أعمالهم، أي ولِّها صفحة عنقك بالإعراض عنها، وأكد الصفح بنعت الجمال إذ المراد منه أن يكون لا عتب فيه ولا تعرض‏.‏

وهذه الآية تقتضي مداهنة، ونسخها في آية السيف قالة قتادة، ثم تلا في آخر الآية بأن الله تعالى يخلق من شاء لما شاء ويعلم تعالى وجه الحكمة في ذلك لا هذه الأوثان التي يعبدونها، وقرأ جمهور الناس «الخلاق»، وقرأ الأعمش والجحدري «الخالق»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏87- 93‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنَ الْعَظِيمَ ‏(‏87‏)‏ لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏88‏)‏ وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ ‏(‏89‏)‏ كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ ‏(‏90‏)‏ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآَنَ عِضِينَ ‏(‏91‏)‏ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏92‏)‏ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏93‏)‏‏}‏

قال ابن عمر وابن مسعود وابن عباس ومجاهد وابن جبير‏:‏ «السبع» هنا هي السبع الطوال البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والمص والأنفال مع براءة، وقال ابن جبير‏:‏ بل السابعة يونس وليست الأنفال وبراءة منها، و‏{‏المثاني‏}‏ على قول هؤلاء‏:‏ القرآن كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 23‏]‏، وسمي بذلك لأن القصص والأخبار تثنى فيه وتردد، وقال عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن عباس أيضاً وابن مسعود والحسن وابن أبي مليكة وعبيد بن عمير وجماعة‏:‏ «السبع» هنا هي آيات الحمد، قال ابن عباس‏:‏ هي سبع‏:‏ ببسم الله الرحمن الرحيم، وقال غيره هي سبع دون البسملة، وروي في هذا حديث أبي بن كعب ونصه‏:‏ قال أبيّ‏:‏ قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ألا أعلمك يا أبيّ سورة لم تنزل في التوراة والإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها»، قلت‏:‏ بلى، قال‏:‏ «إني لأرجو أن لا تخرج من ذلك الباب حتى تعلمها»، فقام رسول الله وقمت معه ويدي في يده وجعلت أبطئ في المشي مخافة أن أخرج، فلما دنوت من باب المسجد، قلت‏:‏ يا رسول الله، السورة التي وعدتنيها‏؟‏ فقال‏:‏ «كيف تقرأ إذا قمت في الصلاة»‏؟‏ قال‏:‏ فقرأت ‏{‏الحمد لله رب العالمين‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 1‏]‏ حتى كملت فاتحة الكتاب، فقال‏:‏ «هي هي، وهي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيت»، كذا أو نحوه ذكره مالك في الموطأ، وهو مروي في البخاري ومسلم عن أبي سعيد بن المعلى أيضاً، وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم «إنها السبع المثاني، وأم القرآن، وفاتحة الكتاب» وفي كتاب الزهراوي‏:‏ وليس فيها بسملة، و‏{‏المثاني‏}‏ على قول هؤلاء يحتمل أن يكون القرآن، ف ‏{‏من‏}‏ للتبعيض، وقالت فرقة‏:‏ بل أراد الحمد نفسها كما قال ‏{‏الرجس من الأوثان‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 30‏]‏ ف ‏{‏من‏}‏ لبيان الجنس، وسميت بذلك لأنها تثنى في كل ركعة، وقيل سميت بذلك لأنها يثنى بها على الله تعالى، جوزه الزجاج‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وفي هذا القول من جهة التصريف نظر، وقال ابن عباس‏:‏ سميت بذلك لأن الله تعالى استثناها لهذه الأمة ولم يعطها لغيرها، وقال نحوه ابن أبي مليكة، وقرأت فرقة «والقرآن» بالخفض عطفاً على ‏{‏المثاني‏}‏ وقرأت فرقة «والقرآنَ» بالنصب عطفاً على قوله ‏{‏سبعاً‏}‏، وقال زياد بن أبي مريم‏:‏ المراد بقوله ‏{‏ولقد آتيناك سبعاً‏}‏ أي سبع معان من القرآن خولناك فيها شرف المنزلة في الدنيا والآخرة وهي‏:‏ مُرْ، وانْهَ، وبشر، وأنذِر، واضرب الأمثال، واعدد النعم، واقصص الغيوب، وقال أبو العالية «السبع المثاني» هي آية فاتحة الكتاب، ولقد نزلت هذه السورة وما نزل من السبع الطوال شيء، وقوله ‏{‏لا تمدن عينيك‏}‏ الآية، حكى الطبري، عن سفيان بن عيينة أنه قال هذه الآية أمر بالاستغناء بكتاب الله عن جميع زينة الدنيا، وهي ناظرة إلى قوله عليه السلام‏:‏

«ليس منا من لم يتغن بالقرآن» أي يستغني به‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فكأنه قال‏:‏ ولقد آتيناك عظيماً خطيراً فلا تنظر إلى غير ذلك من أمور الدنيا وزينتها التي متعنا بها أنواعاً من هؤلاء الكفرة، ومن هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من أوتي القرآن فرأى أن أحداً أعطي أفضل مما أعطي فقد عظم صغيراً، وصغر عظيماً» وكأن «مد العين» يقترن به تمنَّ، ولذلك عبر عن الميل إلى زينة الدنيا ب «مد العين» و«الأزواج» هنا الأنواع والأشباه، وقوله ‏{‏ولا تحزن عليهم‏}‏ أي لا تتأسف لكفرهم وهلاكهم، واصرف وجه تحفيك إلى من آمن بك ‏{‏واخفض‏}‏ لهم ‏{‏جناحك‏}‏ وهذه استعارة بمعنى لين جناحك ووطئ أكنافك‏.‏ «والجناح» الجانب والجنب، ومنه ‏{‏واضمم يدك إلى جناحك‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 22‏]‏ فهو أمر بالميل إليهم، والجنوح الميل، ‏{‏وقل إني أنا النذير المبين‏}‏، أي تمسك بهذا القدر العظيم الذي وهبناك، والكاف من قوله ‏{‏كما‏}‏ متعلقة بفعل محذوف تقديره، وقل إني أنا النذير المبين عذاباً كالذي أنزلنا على المقتسمين، فالكاف اسم في موضع نصب‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ هذا قول المفسرين، وهو عندي صحيح لأن ‏{‏كما‏}‏ ليس مما يقوله محمد عليه السلام بل هو من قول الله تعالى له فينفصل الكلام، وإنما يترتب هذا القول بأن نقدر أن الله تعالى قال له تنذر عذاباً كما، والذي أقول في هذا المعنى‏:‏ وقل أنا النذير كما قال قبلك رسلنا وأنزلنا عليهم كما أنزلنا عليك، ويحتمل أن يكون المعنى وقل أنا النذير كما قد أنزلنا قبل في الكتب أنك ستأتي نذيراً، وهذا على أن ‏{‏المقتسمين‏}‏ أهل الكتاب، واختلف الناس في ‏{‏المقتسمين‏}‏ من هم‏؟‏ فقال ابن زيد‏:‏ هم قوم صالح الذين اقتسموا السيئات فالمقتسمون على هذا من القسم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويقلق هذا التأويل مع قوله ‏{‏الذين جعلوا القرآن عضين‏}‏، وقال ابن عباس وسعيد بن جبير‏:‏ «المقتسمون» هم أهل الكتاب الذين فرقوا دينهم، وجعلوا كتاب الله أعضاء آمنوا ببعض وكفروا ببعض، وقال نحوه مجاهد، وقالت فرقة‏:‏ «المقتسمون» هم من كفار قريش الذين اقتسموا الطرق وقت الموسم ليعرفوا الناس بحال محمد عليه السلام، وجعلوا القرآن سحراً وشعراً وكهانة فعضهوه بهذا وعضوه أعضاء بهذا التقسيم، وقال عكرمة‏:‏ «المقتسمون» هم قوم كانوا يستهزئون بسور القرآن فيقول الرجل منهم هذه السورة لي، ويقول الآخر وهذه لي، وقوله ‏{‏عضين‏}‏ مفعول ثان وجعل بمعنى صير، أي بألسنتهم ودعواهم، وأظهر ما فيه أنه جمع عضة، وهي الفرقة من الشيء والجماعة من الناس كثبة وثبين وعزة وعزين، وأصلها عضهة وثبوة فالياء والنون عوض من المحذوف، كما قالوا سنة وسنون، إذ أصلها سنهة، وقال ابن عباس وغيره‏:‏ ‏{‏عضين‏}‏ مأخوذ من الأعضاء أي عضوة فجعلوه أعضاء مقسماً، ومن ذلك قول الراجز‏:‏

وليس دين الله بالمعضى *** وهذا هو اختيار أبي عبيدة، وقال قتادة ‏{‏عضين‏}‏ مأخوذ من العضة وهو السب المفحش، فقريش عضهوا كتاب الله بقولهم‏:‏ هو شعر، هو سحر، هو كهانة، وهذا هو اختيار الكسائي، وقالت فرقة‏:‏ ‏{‏عضين‏}‏ جمع عضة وهي اسم للسحر خاصة بلغة قريش، ومنه قول الراجز‏:‏

للماء من عضتهن زمزمة‏.‏ *** وقال هذا قول عكرمة مولى ابن عباس، وقال العضة السحر، وهم يقولون للساحرة العاضهة، وفي الحديث «لعن الله العاضهة والمستعضهة»، وهذا هو اختيار الفراء‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ومن قال جعلوه أعضاء فإنما أراد قسموه كما تقسم الجزور أعضاء، وقوله ‏{‏فوربك لنسألنهم‏}‏ إلى آخر الآية، ضمير عام ووعيد محض يأخذ كل أحد منه بحسب جرمه وعصيانه، فالكافر يسأل عن لا إله إلا الله وعن الرسل وعن كفره وقصده به، والمؤمن العاصي يسأل عن تضييعه، والإمام عن رعيته، وكل مكلف عما كلف القيام به، وفي هذا المعنى أحاديث، وقال أبو العالية في تفسير هذه الآية‏:‏ يسأل العباد كلهم عن خلتين يوم القيامة عما كانوا يعبدون وماذا أجابوا المرسلين، وقال في تفسيرها أنس بن مالك وابن عمر ومجاهد‏:‏ إن السؤال عن لا إله إلا الله، وذكره الزهراوي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال ابن عباس في قوله ‏{‏فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون‏}‏، قال يقال لهم‏:‏ لم عملتم كذا وكذا‏؟‏ قال وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 39‏]‏ معناه يقال له ما أذنبت لأن الله تعالى أعلم بذنبه منه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏94- 99‏]‏

‏{‏فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏94‏)‏ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ‏(‏95‏)‏ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ‏(‏96‏)‏ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ ‏(‏97‏)‏ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ‏(‏98‏)‏ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ‏(‏99‏)‏‏}‏

‏{‏فاصدع‏}‏ معناه فانفد وصرح بما بعثت به، والصدع التفريق بين ملتئم كصدع الزجاجة ونحوه، فكأن المصرح بقول يرجع إليه، يصدع به ما سواه مما يضاده، والصديع الصبح لأنه يصدع الليل، وقال مجاهد‏:‏ نزلت في أن يجهر بالقرآن في الصلاة، وفي ‏{‏تؤمر‏}‏ ضمير عائد على ‏{‏ما‏}‏، تقديره ما تؤمر به أو تؤمره وفي هذين تنازع، وقوله ‏{‏وأعرض عن المشركين‏}‏ من آيات المهادنات التي نسختها آية السيف، قاله ابن عباس، ثم أعلمه الله تعالى بأنه قد كفاه ‏{‏المستهزئين‏}‏ من كفار مكة ببوائق إصابتهم من الله تعالى لم يسع فيها محمد ولا تكلف فيها مشقة، وقال عروة بن الزبير وسعيد بن جبير‏:‏ «المستهزئون» خمسة نفر‏:‏ الوليد بن المغيرة، والعاصي بن وائل، والأسود بن المطلب أبو زمعة، والأسود بن عبد يغوث، ومن خزاعة الحارث بن الطلاطلة، وهو ابن غيطلة، وهو ابن قيس، قال أبو بكر الهذلي‏:‏ قلت للزهري‏:‏ إن ابن جبير وعكرمة اختلفا في رجل من المستهزئين، فقال ابن جبير هو الحارث بن غيطلة، وقال عكرمة هو الحارث بن قيس، فقال الزهري صدقا أمه غيطلة وأبوه قيس وذكر الشعبي في ‏{‏المستهزئين‏}‏ هبار بن الأسود، وذلك وهم لأن هباراً أسلم يوم الفتح ورحل إلى المدينة، وذكر الطبري عن ابن عباس‏:‏ أن ‏{‏المستهزئين‏}‏ كانوا ثمانية كلهم مات قبل بدر، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في المسجد، فأتاه جبريل فجاز الوليد فأومأ جبريل بأصبعه إلى ساقه، وقال للنبي عليه السلام‏:‏ كفيت ثم جاز العاصي، فأومأ إلى أخمصه، وقال‏:‏ كفيت، ثم مر أبو زمعة فأومأ إلى عينه، ثم مر الأسود بن عبد يغوث، فأومأ إلى أخمصه، وقال‏:‏ كفيت، ثم مر أبو زمعة فأومأ إلى عينه، ثم مر الأسود بن عبد يغوث، فأومأ إلى رأسه، وقال كفيت، ثم مر الحارث، فأومأ إلى بطنه، وقال‏:‏ كفيت، وكان الوليد قد مر بقين في خزاعة فتعلق سهم من نبله بإزاره، فخدش ساقه، ثم برئ فانتقض به ذلك الخدش بعد إشارة جبريل، فقتله، وقيل إن السهم قطع أكحله، قاله قتادة ومقسم، وركب العاصي بغلة في حاجة فلما جاء ينزل وضع أخمصه على شبرقه فورمت قدمه فمات، وعمي أبو زمعة، وكان يقول‏:‏ دعا علي محمد بالعمى فاستجيب له، ودعوت عليه بأن يكون طريداً شريداَ فاستجيب لي، وتمخض رأس الأسود بن عبد يغوث قيحاً فمات، وامتلأ بطن الحارث ماء فمات حبناً‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وفي ذكر هؤلاء وكفايتهم اختلاف بين الرواة في صفة أحوالهم، وما جرى لهم، جليت أصحه مختصراً طلب الإيجاز، ثم قرر تعالى ذنبهم في الكفر واتخاذ الأصنام آلهة مع الله تعالى، ثم توعدهم بعذاب الآخرة الذي هو أشق، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون‏}‏ آية تأنيس للنبي عليه السلام، وتسلية عن أقوال المشركين وإن كانت مما يقلق، وضيق الصدر يكون من امتلائه غيظاً بما يكره الإنسان، ثم أمره تعالى بملازمة الطاعة وأن تكون مسلاته عند الهموم، وقوله ‏{‏من الساجدين‏}‏ يريد من المصلين، فذكر من الصلاة حالة القرب من الله تعالى وهي السجود، وهي أكرم حالات الصلاة وأقمنها بنيل الرحمة، وفي الحديث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

«إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة» فهذا منه عليه السلام أخذ بهذه الآية، و‏{‏اليقين‏}‏‏:‏ الموت، بذلك فسره هنا ابن عمر ومجاهد والحسن وابن زيد، ومنه قول النبي عليه السلام عند موت عثمان بن مظعون‏:‏ «أما هو فقد رأى اليقين»، ويروى «فقد جاءه اليقين»‏.‏ وليس ‏{‏اليقين‏}‏ من أسماء الموت، وإنما العلم به يقين لا يمتري فيه عاقل، فسماه هنا يقيناً تجوزاً، أي يأتيك الأمر اليقين علمه ووقوعه وهذه الغاية معناها مدة حياتك، ويحتمل أن يكون المعنى ‏{‏حتى يأتيك اليقين‏}‏ في النصر الذي وعدته‏.‏

سورة النحل

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏1‏)‏ يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ ‏(‏2‏)‏ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏3‏)‏ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ‏(‏4‏)‏‏}‏

روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال جبريل في سرد الوحي‏:‏ ‏{‏أتى أمر الله‏}‏ وثب رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً، فلما قال ‏{‏فلا تستعجلوه‏}‏ سكن‏.‏ وقوله ‏{‏أمر الله‏}‏ قال فيه جمهور المفسرين‏:‏ إنه يريد القيامة وفيها وعيد للكفار، وقيل‏:‏ المراد نصر محمد عليه السلام، وقيل‏:‏ المراد تعذيب كفار مكة بقتل محمد صلى الله عليه وسلم لهم وظهوره عليهم، ذكر نحو هذا النقاش عن ابن عباس، وقيل‏:‏ المراد فرائض الله وأحكامه في عباده وشرعه لهم، هذا هو قول الضحاك، ويضعفه قوله ‏{‏فلا تستعجلوه‏}‏ إنا لا نعرف استعجالاً إلا ثلاثة اثنان منها للكفار وهي في القيامة وفي العذاب، والثالث للمؤمنين في النصر وظهور الإسلام، وقوله ‏{‏أتى‏}‏ على هذا القول إخبار عن إتيان ما يأتي، وصح ذلك من جهة التأكيد، وإذا كان الخبر حقاً فيؤكد المستقبل بأن يخرج في صيغة الماضي، أي كأنه لوضوحه والثقة به قد وقع، ويحسن ذلك في خبر الله تعالى لصدق وقوعه، وقال قوم‏:‏ ‏{‏أتى‏}‏ بمعنى قرب، وهذا نحو ما قلت، وإنما يجوز الكلام بهذا عندي لمن يعلم قرينه التأكيد ويفهم المجاز، وأما إن كان المخاطب لا يفهم القرينة فلا يجوز وضع الماضي موضع المستقبل، لأن ذلك يفسد الخبر ويوجب الكذب، وإنما جار في الشرط لوضوح القرينة ب ‏{‏أن‏}‏، ومن قال‏:‏ إن الأمر القيامة، قال‏:‏ إن قوله ‏{‏فلا تستعجلوه‏}‏ رد على المكذبين بالبعث القائلين متى هذا الوعد، ومن قال‏:‏ إن الأمر تعذيب الكفار بنصر محمد صلى الله عليه وسلم وقتله لهم، قال إن قوله ‏{‏فلا تستعجلوه‏}‏ رد على القائلين ‏{‏عجل لنا قطنا‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 16‏]‏ ونحوه من العذاب، أو على مستبطئي النصر من المؤمنين في قراءة من قرأ بالتاء، وقرأ الجمهور «فلا تستعجلوه» بالتاء على مخاطبة المؤمنين أو على مخاطبة الكافرين بمعنى قل لهم‏:‏ «فلا تستعجلوه»، وقرأ سعيد بن جبير بالياء على غيبة المشركين، وقرأ حمزة والكسائي بالتاء من فوق وجميع الباقين قرأ «يشركون» بالياء، ورجح الطبري القراءة بالتاء من فوق في الحرفين، قال أبو حاتم‏:‏ قرأ «يشركون» بالياء، من تحت في هذه والتي بعدها الأعرج وأبو جعفر ونافع وأبو عمرو وابن نصاح والحسن وأبو رجاء، وقرأ عيسى الأولى بالتاء من فوق، والثانية بالياء من تحت، وقرأهما جميعاً بالتاء من فوق أبو العالية وطلحة والأعمش وأبو عبد الرحمن ويحيى بن وثاب والجحدري، وقد روى الأصمعي عن نافع التاء في الأولى‏.‏ وقوله ‏{‏سبحانه‏}‏ معناه تنزيهاً له، وحكى الطبري عن ابن جريج، قال‏:‏ لما نزلت ‏{‏أتى أمر الله فلا تستعجلوه‏}‏ قال رجال من الكفار، إن هذا يزعم أن أمر الله قد أتى فأمسكوا عما أنتم بسبيله حتى ننظر، فلما لم يروا شيئاً عادوا فنزلت

‏{‏اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 1‏]‏ فقالوا مثل ذلك‏:‏ فنزلت ‏{‏ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه إلا يوم يأتيهم ليس مصروفاً عنهم‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 8‏]‏، وقال أبو بكر بن حفص‏:‏ لما نزلت ‏{‏أتى أمر الله‏}‏ رفعوا رؤوسهم، فنزلت ‏{‏فلا تستعجلوه‏}‏، وحكى الطبري عن أبي صادق أنه قرأ‏:‏ «يا عبادي أتى أمر الله فلا تستعجلوه»‏.‏ و‏{‏سبحانه‏}‏ نصب على المصدر أي تنزيهاً له، وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي «ينزّل» بالياء وشد الزاي، ورجحها الطبري لما فيها من التكثير، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بتخفيف الزاي مكسورة وسكون النون، وقرأ ابن أبي عبلة بالنون التي للعظمة وشد الزاي، وقرأ قتادة بالنون وتخفيف الزاي وسكون النون، وفي هذه والتي قبلها شذوذ كثير، وقرأ أبو عمرو عن عاصم «تُنزَّل الملائكةُ» بضم التاء وفتح النون والزاي وشدها ورفع «الملائكة» على ما لم يسم فاعله، وهي قراءة الأعمش، وقرأ الجحدري بالتاء مضمومة وسكون النون وفتح الزاي، وقرأ الحسن وأبو العالية وعاصم الجحدري والأعرج بفتح التاء ورفع «الملائكةُ» على أنها فاعلة، ورواها المفضل عن عاصم، و‏{‏الملائكة‏}‏ هنا جبريل‏:‏ واختلف المتأولون في ‏{‏الروح‏}‏ فقال مجاهد، ‏{‏الروح‏}‏ النبوة، وقال ابن عباس‏:‏ الوحي، وقال قتادة‏:‏ بالرحمة والوحي، وقال الربيع بن أنس‏:‏ كلا كلام الله روح، ومنه قوله تعالى ‏{‏أوحينا إليك روحاً من أمرنا‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 52‏}‏ وقال ابن جريج‏:‏ الروح شخص له صورة كصورة بني آدم ما نزل جبريل قط إلا وهو معه، وهو كثير، وهم ملائكة، وهذا قول ضعيف لم يأت به سند، وقال الزجاج‏:‏ ‏{‏الروح‏}‏ ما تحيى به قلوب من هداية الله تعالى‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا قول حسن، فكأن اللفظة على جهة التشبيه بالمقايسة إلى الأوامر التي هي في الأفعال والعبادات كالروح للجسد، ألا ترى قوله ‏{‏أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 122‏]‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ و‏{‏من‏}‏ في هذه الآية على هذا التأويل الذي قدرنا للتبعيض، وعلى سائر الأقوال لبيان الجنس، و‏{‏من‏}‏ في قوله ‏{‏من يشاء‏}‏ هي للأنبياء، و‏{‏أن‏}‏ في موضع خفض بدل من ‏{‏الروح‏}‏، ويصح أن تكون في موضع نصب بإسقاط الخافض على تقدير بأن أنذروا، ويحتمل أن تكون مفسرة بمعنى أي، وقرأ الأعمش «لينذروا أنه»، وحسنت النذارة هنا وإن لم يكن في اللفظ ما فيه خوف من حيث كان المنذرون كافرين بالألوهية، ففي ضمن أمرهم مكان خوف، وفي ضمن الإخبار بالوحدانية نهي عما كانوا عليه ووعيد، ثم ذكر تعالى ما يقال للأنبياء بالوحي على المعنى، ولم يذكره على لفظه لأنه لو ذكره على اللفظ لقال «أن أنذروا أنه لا إله إلا الله»، ولكنه إنما ذكر ذلك على معناه، وهذا سائغ في الأقوال إذا حكيت أن تحكى على لفظها، أو تحكى بالمعنى فقط، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏خلق السماوات والأرض‏}‏ الآية، آية تنبيه على قدرة الله تعالى بالحق أي بالواجب اللائق، وذلك أنها تدل على صفات يحق لمن كانت له أن يخلق ويخترع ويعيد، وهي الحياة والعلم والقدرة والإرادة النافذة بخلاف شركائهم الذين لا يحق لهم شيء من صفات الربوبية، وقرأ الأعمش بزيادة فاء «فتعالى»‏.‏

وقوله ‏{‏خلق الإنسان من نطفة‏}‏ يريد ب ‏{‏الإنسان‏}‏ الجنس، وأخذ له الغايتين ليظهر له البعد بينهما بقدرة الله، ويروى أن الآية نزلت لقول أبي بن خلف من يحيي العظام وهي رميم‏؟‏ وقوله ‏{‏خصيم‏}‏ يحتمل أن يريد به الكفرة الذين يختصمون في الله ويجادلون في توحيده وشرعه، ذكره ابن سلام عن الحسن البصري، ويحتمل أن يريد أعم من هذا على أن الآية تعديد نعمة الذهن والبيان على البشر، ويظهر أنها إذا تقدر في خصام الكافرين ينضاف إلى العبرة وعيد ما‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 9‏]‏

‏{‏وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ‏(‏5‏)‏ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ‏(‏6‏)‏ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏7‏)‏ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏8‏)‏ وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏الأنعام‏}‏ الإبل والبقر والغنم وأكثر ما يقال نعم وأنعام للإبل، ويقال للمجموع، ولا يقال للغنم مفردة، ونصبها إما عطف على ‏{‏الإنسان‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 4‏]‏ وإما بفعل مقدر وهو أوجه، و«الدفء» السخانة وذهاب البرد بالأكسية ونحوها، وذكر النحاس عن الأموي أنه قال‏:‏ الدفء في لغة بعضهم تناسل الإبل‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وقد قال ابن عباس‏:‏ نسل كل شيء، وقد قال ابن سيده‏:‏ «الدفء» نتاج الإبل وأوبارها والانتفاع بها، والمعنى الأول هو الصحيح، وقرأ الزهري وأبو جعفر «دفء» بضم الفاء وشدها وتنوينها، و«المنافع» ألبانها وما تصرف منها ودهونها وحرثها والنضح عليها وغير ذلك، ثم ذكر «الأكل» الذي هو من جميعها، وقوله ‏{‏جمال‏}‏ أي في المنظر‏.‏ و‏{‏تريحون‏}‏ معناه حين تردونها وقت الرواح إلى المنازل فتأتي بطاناً ممتلئة الضروع، و‏{‏تسرحون‏}‏ معناه تخرجونها غدوة إلى السرح، تقول سرحت السائمة إذا أرسلتها تسرح فسرحت هي، كرجع رجعته، وهذا «الجمال» هو لمالكها ولمحبيه وعلى حسدته وهذا المعنى كقوله تعالى ‏{‏المال والبنون زينة الحياة الدنيا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 46‏]‏ وقرأ عكرمة والضحاك «حينما تريحون حيناً تسرحون»، وقرأت فرقة «وحيناً ترتحون»‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وأظنها تصحيفاً‏.‏

و «الأثقال» الأمتعة، وقيل المراد هنا الأجسام كقوله ‏{‏وأخرجت الأرض أثقالها‏}‏ ‏[‏الزلزلة‏:‏ 2‏]‏ أي أجسام بني آدم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ واللفظ يحتمل المعنيين، قال النقاش‏:‏ ومنه سمي الإنس والجن الثقلين، وقوله ‏{‏إلى بلد‏}‏ أي بلد توجهتم بحسب اختلاف أغراض الناس، وقال عكرمة وابن عباس والربيع بن أنس‏:‏ المراد مكة، وفي الآية على هذا حض على الحج‏.‏ و«الشق» المشقة، ومنه قول الشاعر ‏[‏النمر بن تولب‏]‏‏:‏ ‏[‏الطويل‏]‏

وذي إبل يسعى ويحسبها له *** أخي نصب من شقها ودؤوب

أي من مشقتها، ويقال فيها شق وشق أي مشقة، وقرأ أبو جعفر القاري وعمرو بن ميمون وابن أرقم ومجاهد والأعرج «بشَق الأنفس» بفتح الشين، ورويت عن نافع وأبي عمرو، وذهب الفراء إلى أن معنى ‏{‏بشق الأنفس‏}‏ أي بذهاب نصفها، كأنه قد دأبت نصباً وتعباً‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ كما تقول لرجل لا تقدر على كذا إبا بذهاب جل نفسك وبقطعة من كبدك ونحو هذا من المجاز، وذهبوا في فتح الشين إلى أنه مصدر شَق يشق، ثم أوجب رأفة الله ورحمته في هذه النعم التي أذهبت المشقات ورفعت الكلف، وقوله ‏{‏والخيل‏}‏ عطف أي وخلق الخيل، وقرأ ابن أبي عبلة، «والخيلُ والبغالُ والحميرُ» بالرفع في كلها، وسميت الخيل خيلاً لاختيالها في المشية، أفهمه أعرابي لأبي عمرو بن العلاء، وقوله ‏{‏وزينة‏}‏ نصب بإضمار فعل، قيل تقديره وجعلنا زينة، وقرأ ابن عياض «لتركبوها زينة» دون واو، والنصب حينئذ على الحال من الهاء في ‏{‏تركبوها‏}‏ وقوله ‏{‏ويخلق ما لا تعلمون‏}‏ عبرة منصوبة على العموم، أي أن مخلوقات الله من الحيوان وغيره لا يحيط بعلمها بشر، بل ما يخفى عنه أثر مما يعلمه، وقد روي أن الله تعالى خلق ألف نوع من الحيوان منها في البر أربعمائة، وبثها بأعيانها في البحر، وزاد في مائتين ليست في البر‏.‏

وكل من خصص في تفسير هذه الآية شيئاً، كقول من قال سوس الثياب وغير ذلك فإنما هو على جهة المثال، لا أن ما ذكره هو المقصود في نفسه‏.‏ قال الطبري ‏{‏ما لا تعلمون‏}‏ هو ما أعد الله في الجنة لأهلها، وفي النار لأهلها مما لم تره عين ولا سمعته أذن ولا خطر على قلب بشر، واحتج بهذه الآية مالك رحمه الله ومن ذهب مذهبه في كراهة لحوم الخيل والبغال والحمير أو تحريمها بحسب الاختلاف في ذلك، وذكر الطبري عن ابن عباس، قال ابن جبير‏:‏ سئل ابن عباس عن لحوم الخيل والبغال والحمير، فكرهها فاحتج بهذه الآية، وقال‏:‏ جعل الله الأنعام للأكل، وهذه للركوب، وكان الحكم بن عتبة يقول‏:‏ الخيل والبغال والحمير حرام في كتاب الله ويحتج بهذه الآية‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذه الحجة غير لازمة عند جماعة من العلماء، قالوا إنما ذكر الله عز وجل عظم منافع الأنعام، وذكر عظم منافع هذه وأهم ما فيها، وليس يقضي ذلك بأن ما ذكر لهذه لا تدخل هذه فيها، قال الطبري وفي إجماعهم على جواز ركوب ما ذكر للأكل، دليل على جواز أكل ما ذكر للركوب‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وفي هذا نظر، ولحوم الخيل عند كثير من العلماء حلال، وفي جواز أكلها حديث أسماء بنت أبي بكر، وحديث جابر بن عبد الله‏:‏ كنا نأكل الخيل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والبغال والحمير مكروهة عند الجمهور، وهو تحقيق مذهب مالك، ومن حجة من ألحق الخيل بالبغال والحمير في الكراهية القياس، إذ قد تشابهت وفارقت الأنعام في أنها لا تجتر، وأنها ذوات حوافر، وأنها لا أكراش لها، وأنها متداخلة في النسل، إذ البغال بين الحمير والخيل فهذا من جهة النظر، وأما من جهة الشرع بأن قرنت في هذه الآية وأسقطت فيها الزكاة، وقوله ‏{‏وعلى الله قصد السبيل‏}‏ الآية، هذا أيضاً من أجل نعم الله تعالى، أي على الله تقويم طريق الهدى وتبيينه، وذلك نصب الأدلة وبعث الرسل وإلى هذا ذهب المتأولون، ويحتمل أن يكون المعنى أن مرسلك السبيل القاصد فعلى الله ورحمته وتنعيمه طريقه وإلى ذلك مصيره، فيكون هذا مثل قوله تعالى

‏{‏هذا صراط علي مستقيم‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 41‏]‏ وضد قول النبي صلى الله عليه وسلم «والشر ليس إليك» أي لا يفضي إلى رحمتك، وطريق قاصد معناه بين مستقيم، ومنه قول الآخر‏:‏

فصد عن نهج الطريق القاصد *** والألف واللام في ‏{‏السبيل‏}‏ للعهد، وهي سبيل الشرع، وليست للجنس، ولو كانت للجنس لم يكن فيها جائر، وقوله ‏{‏ومنها جائر‏}‏ يريد طريق اليهود والنصارى وغيرهم كعبدة الأصنام، والضمير في ‏{‏منها‏}‏ يعود على ‏{‏السبيل‏}‏ التي تضمنها معنى الآية، كأنه قال‏:‏ ومن السبيل جائر، فأعاد عليها وإن كان لم يجر له ذكر لتضمن لفظة ‏{‏السبيل‏}‏ بالمعنى لها، ويحتمل أن يعود الضمير في ‏{‏منها‏}‏ على سبيل الشرع المذكورة وتكون «من» للتبعيض ويكون المراد فرق الضلالة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، كأنه قال ومن بنيات الطرف في هذه السبيل ومن شعبها جائر، وقوله ‏{‏ولو شاء لهداكم أجمعين‏}‏ معناه لخلق الهداية في قلوب جميعكم ولم يضل أحد، وقال الزجاج معناه لو شاء لعرض عليكم آية تضطركم إلى الإيمان والاهتداء‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا قول سوء لأهل البدع الذين يرون أن الله لا يخلق أفعال العباد لم يحصله الزجاج، ووقع فيه رحمه الله عن غير قصد، وفي مصحف عبد الله بن مسعود «ومنكم جائر»، وقرأ علي بن أبي طالب «فعنكم جائر»، و‏{‏السبيل‏}‏ تذكر وتؤنث‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 12‏]‏

‏{‏هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ‏(‏10‏)‏ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏11‏)‏ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

هذا تعديد نعمة الله في المطر، وقوله ‏{‏ومنه شجر‏}‏ أي يكون منه بالتدريج، إذ يسقي الأرض فينبت عن ذلك السقي الشجر، وهذا من التجوز، كقول الشاعر‏:‏ ‏[‏الرجز‏]‏

أسنمة الآبال في ربابه *** وكما سمى الآخر العشب سماء، في قوله‏:‏ ‏[‏الوافر‏]‏

إذا نزل السماء بأرض قوم *** رعيناه وإن كانوا غضابا

قال أبو إسحاق‏:‏ يقال لكل ما نبت على الأرض شجر، وقال عكرمة لا تأكلوا ثمن الشجر فإنه سحت يعني الكلأ‏.‏ و‏{‏تسيمون‏}‏ معناه ترعون أنعامكم وسومها من الرعي وتسرحونها، ويقال للأنعام السائمة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «وفي سائمة الغنم الزكاة»، يقال أسام الرجل ماشيته إسامة إذا أرسلها ترعى، وسومها أيضاً وسامت هي، ومن ذلك قول الأعشى‏:‏

ومشى القوم بالأنعام إلى الرَّو *** حتى وأعيى المسيم أين المساق

ومنه قول الآخر‏:‏ ‏[‏الكامل‏]‏

مثل ابن بزعة أو كآخر مثله *** أولى لك ابن مسيمة الأجمال

أي راعية للأجمال وفسر المتأولون بترعون، وقرأ الجمهور «ينبت» بالياء على معنى ينبت الله، يقال نبت الشجر وأنبته الله، وروي أنبت الشجر بمعنى نبت، وكان الأصمعي يأبى ذلك ويتمم قصيدة زهير التي فيها‏:‏ حتى إذا أنبت البقل، وقرأ أبو بكر عن عاصم، «ننبت» بنون العظمة، وخص عز وجل ذكر هذه الأربعة لأنها أشرف ما ينبت وأجمعها للمنافع، ثم عم بقوله ‏{‏من كل الثمرات‏}‏، ثم أحال القول على الفكرة في تصاريف النبات والأشجار وهي موضع عبر في ألوانها واطراد خلقها وتناسب ألطافها، فسبحان الخلاق العليم‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وسخر لكم الليل والنهار‏}‏ الآية، قرأ الجمهور بإعمال ‏{‏سخر‏}‏ في جميع ما ذكر ونصب «مسخراتٍ» على الحال المؤكدة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وهو الحق مصدقاً‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 31‏]‏ وكما قال الشاعر‏:‏ ‏[‏البسيط‏]‏

أنا ابن دارة معروفاً بها نسبي *** ونحو هذا وقرأ ابن عامر «والشمسُ والقمرُ والنجومُ مسخراتٌ» برفع هذا كله، وقرأ حفص عن عاصم «والنجومُ مسخراتٌ بأمره» بالرفع ونصب ما قبل ذلك، والمعنى في هذه الآية أن هذه المخلوقات مسخرات على رتبة قد استمر بها انتفاع البشر من السكون بالليل والسعي في المعايش وغير ذلك بالنهار، وأما منافع الشمس والقمر فأكثر من أن تحصى وأما النجوم فهدايات، وبهذا الوجه عدت من جملة النعم على بني آدم، ومن النعمة بها ضياؤها أحياناً، قال الزجاج‏:‏ وعلم عدد السنين والحساب بها‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وفي هذا نظر، وقرأ ابن مسعود والأعمش وطلحة بن مصرف «والرياح مسخرات» في موضع «النجوم»، ثم قال ‏{‏إن في ذلك لآيات‏}‏ لعظم الأمر لأن كل واحد مما ذكر آية في نفسه لا يشترك مع الآخر، وقال في الآية قبل الآية لأن شيئاً واحداً يعم تلك الأربعة وهو النبات، وكذلك في ذكر ‏{‏ما ذرأ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 13‏]‏ ليسارته بالإضافة، وأيضاً ف «آية» بمعنى «آيات» واحد يراد به الجمع‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 15‏]‏

‏{‏وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ‏(‏13‏)‏ وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏14‏)‏ وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ‏(‏15‏)‏‏}‏

‏{‏ذرأ‏}‏ معناه بث ونشر، والذرية من هذا في أحد الأقوال في اشتقاقها، وقوله ‏{‏ألوانه‏}‏ معناه أصنافه، كما تقول هذه ألوان من التمر ومن الطعام، ومن حيث كانت هذه المبثوثات في الأرض أصنافاً فأعدت في النعمة وظهر الانتفاع بها أنه على وجوه، ولا يظهر ذلك من حيث هي متلونة حمرة وصفرة وغير ذلك، ويحتمل أن يكون التنبيه على اختلاف الألوان حمرة وصفرة والأول أبين‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهو الذي سخر البحر‏}‏ الآية تعديد نعم، وتسخير البحر هو تمكين البشر من التصرف فيه وتذليله للركوب والإرفاق وغيره، و‏{‏البحر‏}‏ الماء الكثير ملحاً كان أو عذباً، كله يسمى بحراً، و‏{‏البحر‏}‏ هنا اسم جنس، وإذا كان كذلك فمنه أكل اللحم الطري ومنه «استخراج الحلية»، و«أكل اللحم» يكون من ملحه وعذبه، وإخراج الحلية إنما يكون فيما عرف من الملح فقط، ومما عرف من ذلك اللؤلؤ والمرجان والصدف والصوف البحري، وقد يوجد في العذب لؤلؤ لا يلبس إلا قليلاً، وإنما يتداوى به، ويقال إن في الزمرد بحرياً وقد خطئ الهذلي في وصف الدرة‏.‏ ‏[‏الطويل‏]‏

فجاء بها من درة لطمية *** على وجهها ماء الفرات يدوم

فجعلها من الماء الحلو‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وتأمل أن قوله يخرج على أنه وصف بريقها ومائيتها فشبهه بماء الفرات، ولم يذهب إلى الغرض الذي خطئ فيه، و«اللحم الطري»، و«الحلية» ما تقدم، و‏{‏الفلك‏}‏ هنا جمع، و‏{‏مواخر‏}‏ جمع ماخرة، والمخر في اللغة الصوت الذي يكون من هبوب الريح على شيء يشق أو يصعب في الجملة الماء فيترتب منه أن يكون من السفينة ونحوها وهو في هذه الآية من السفن، ويقال للسحاب بنات مخر تشبيهاً، إذ في جريها ذلك الصوت الذي هو عن الريح والماء الذي في السحاب، وأمرها يشبه أمر البحر على أن الزجاج قد قال‏:‏ بنات المخر سحاب بيض لا ماء فيها، وقال بعض اللغويين المخر في كلام العرب الشق يقال‏:‏ مخر الماء الأرض‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ فهذا بين أن يقال فيه للفلك ‏{‏مواخر‏}‏، وقال قوم ‏{‏مواخر‏}‏ معناه تجيء وتذهب بريح واحدة، وهذه الأقوال ليست تفسير اللفظة، وإنما أرادوا أنها مواخر بهذه الأحوال، إذ هي موضع النعمة المعددة، إذ نفس كون الفلك ماخرة لا نعمة فيه، وإنما النعمة في مخرها بهذه الأحوال في التجارات والسفر فيها وما يمنح الله فيها من الأرباح والمن، وقال الطبري‏:‏ المخر في اللغة صوت هبوب الريح ولم يقيد ذلك بكون في ماء، وقال إن من ذلك قول واصل مولى ابن عيينة إذا أراد أحدكم البول فليتمخر الريح أي لينظر في صوتها في الأجسام من أين تهب، فيتجنب استقبالها لئلا ترد عليه بوله، وقوله ‏{‏ولتبتغوا‏}‏ عطف على ‏{‏تأكلوا‏}‏، وهذا ذكر نعمة لها تفاصيل لا تحصى، فيه إباحة ركوب البحر للتجارة وطلب الأرباح، وهذه ثلاثة أسباب في تسخير البحر، وقوله ‏{‏وألقى في الأرض‏}‏ الآية، قال المتأولون ‏{‏ألقى‏}‏ بمعنى خلق وجعل‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهي عندي أخص من خلق وجعل، وذلك أن ‏{‏ألقى‏}‏ تقتضي أن الله أحدث الجبال ليس من الأرض لكن من قدرته واختراعه، ويؤيد هذا النظر ما روي في القصص عن الحسن عن قيس بن عباد، أن الله تعالى لما خلق الأرض، وجعلت تمور، فقالت الملائكة ما هذه بمقرة على ظهرها أحداً، فأصبحت ضحى وفيها رواسيها‏.‏ و«الرواسي» الثوابت، رسا الشيء يرسو إذا ثبت، ومنه قول الشاعر في صفة الوتد‏:‏

وأشعث أرسته الوليدة بالفهد *** و‏{‏أن‏}‏ مفعول من أجله، و«الميد» الاضطراب، وقوله ‏{‏أنهاراً‏}‏ منصوب بفعل مضمر تقديره وجعل أو وخلق أنهاراً‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وإجماعهم على إضمار هذه الفعل دليل على خصوص ل ‏{‏ألقى‏}‏ ولو كانت ‏{‏ألقى‏}‏ بمعنى خلق لم يحتج إلى هذا الإضمار، و«السبل» الطرق، وقوله ‏{‏لعلكم تهتدون‏}‏ في مشيكم وتصرفكم في السبل، ويحتمل ‏{‏لعلكم تهتدون‏}‏ بالنظر في هذه المصنوعات على صانعها، وهذا التأويل هو البارع، أي سخر وألقى وجعل أنهاراً وسبلاً لعل البشر يعتبر ويرشد ولتكون علامات‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 21‏]‏

‏{‏وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ‏(‏16‏)‏ أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏17‏)‏ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏18‏)‏ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ‏(‏19‏)‏ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ ‏(‏20‏)‏ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏عَلامات‏}‏ نصب على المصدر، أي فعل هذه الأشياء لعلكم تعتبرون بها ‏{‏وعلامات‏}‏ أي عبرة وإعلاماً في كل سلوك، فقد يهتدي بالجبال والأنهار والسبل، واختلف الناس في معنى قوله ‏{‏وعلامات‏}‏ على أن الأظهر عندي ما ذكرت، فقال ابن الكلبي «العلامات» الجبال، وقال إبراهيم النخعي ومجاهد‏:‏ «العلامات» النجوم، ومنها ما سمي علامات ومنها ما يهتدي به، وقال ابن عباس‏:‏ «العلامات» معالم الطرق بالنهار، والنجوم هداية الليل‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والصواب إذا قدرنا الكلام غير معلق بما قبله أن اللفظة تعم هذا وغيره، وذلك أن كل ما دل على شيء وأعلم به فهو علامة، وأحسن الأقوال المذكورة، قول ابن عباس رضي الله عنه‏:‏ لأنه عموم في المعنى فتأمله، وحدثني أبي رضي الله عنه أنه سمع بعض أهل العلم بالمشرق يقول‏:‏ إن في بحر الهند الذي يجري فيه من اليمن إلى الهند حيتاناً طوالاً رقاقاً كالحيات في التوائها وحركاتها وألوانها، وإنها تسمى علامات، وذلك أنها علامة الوصول إلى بلد الهند، وأمارة إلى النجاة والانتهاء إلى الهند لطول ذلك البحر وصعوبته، وإن بعض الناس قال‏:‏ إنها التي أراد الله تعالى في هذه الآية‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ قال أبي رضي الله عنه‏:‏ وأما من شاهد تلك العلامات في البحر المذكور وعاينها فحدثني منهم عدد كثير، وقرأ الجمهور «وبالنجم» على أنه اسم الجنس، وقرأ يحيى بن وثاب «وبالنُّجْم» بضم النون والجيم ساكنة على التخفيف من ضمها، وقرأ الحسن «وبالنُّجم» بضم النون وذلك جمع، كسقف وسقف، ورهن ورهن، ويحتمل أن يراد وبالنجوم، فحذفت الواو‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا عندي توجيه ضعيف، وقال الفراء‏:‏ المراد الجدي والفرقدان‏.‏ وقال غيره‏:‏ المراد القطب الذي لا يجري وقال قوم‏:‏ غير هذا، وقال قوم‏:‏ هو اسم الجنس وهذا هو الصواب، ثم قررهم على التفرقة بين من يخلق الأشياء ويخترعها وبين من لا يقدر على شيء من ذلك، وعبر عن الأصنام ب «من» لوجهين، أحدهما أن الآية تضمنت الرد على جميع من عبد غير الله، وقد عبرت طوائف من تقع عليه العبارة ب «من»، والآخر أن العبارة جرت في الأصنام بحسب اعتقاد الكفرة فيها في أن لها تأثيراً وأفعالاً، ثم وبخهم بقوله ‏{‏أفلا تذكرون‏}‏، وقوله ‏{‏وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها‏}‏ أي إن حاولتم إحصاءها وحصرها عدداً حتى يشذ شيء منها لم تقدروا على ذلك، ولا اتفق لكم إحصاؤها إذ هي في كل دقيقة من أحوالكم،‏.‏ و«النعمة» هنا مفردة يراد بها الجمع، وبحسب العجز عن عد نعم الله يلزم أن يكون الشاكر لها مقصراً عن بعضها، فلذلك قال عز وجل ‏{‏إن الله لغفور رحيم‏}‏ أي تقصيركم في الشكر عن جميعها، نحا هذا المنحى الطبري، ويرد عليه أن نعمة الله تعالى في قول العبد‏:‏ الحمد لله رب العالمين مع شروطها من النية والطاعة يوازي جميع النعم، ولكن أين قولها بشروطها‏؟‏ والمخاطبة بقوله ‏{‏وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها‏}‏ عامة لجميع الناس، وقوله ‏{‏والله يعلم ما تسرون وما تعلنون‏}‏ الآية متصلة بمعنى ما قبله، أي أن الله لغفور في تقصيركم عن شكر ما لا تحصونه من نعم الله، وأن الله تعالى يعلم سركم وعلنكم، فيغني ذلك عن إلزامكم شكر كل نعمة، هذا على قراءة من قرأ «تسرون» بالتاء مخاطبة للمؤمنين، فإن جمهور القراء قرأ «تسرون» بالتاء من فوق «وتعلنون» و«تدعون» كذلك، وهي قراءة الأعرج وشيبة وأبي جعفر ومجاهد على معنى قل يا محمد للكفار، وقرأ عاصم «تسرون» و«تعلنون» بالتاء من فوق و«يدعون» بياء من تحت على غيبة الكفار، وهي قراءة الحسن بن أبي الحسن، وروى هبيرة عن حفص عن عاصم، كل ذلك بالياء على غيبة الكفار، وروى الكسائي عن أبي بكر عن عاصم كل ذلك بالتاء من فوق، وقرأ الأعمش وأصحاب عبد الله «يعلم الذي تبدون وما تكتمون وتدعون» بالتاء من فوق في الثلاثة، و«‏{‏تدعون‏}‏ معناه تدعونه إلهاً، وعبر عن الأصنام ب ‏{‏الذين‏}‏ على ما قدمنا من أن ذلك يعم الأصنام وما عبد من دون الله وغيرها، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون‏}‏ أجمعُ عبارة في نفي أحوال الربوبية عنهم، وقرأ محمد اليماني» والذين يُدعون «بضم الياء وفتح على ما لم يُسم‏.‏

و ‏{‏أموات‏}‏ يراد به الذين يدعون من دون الله ورفع على خبر ابتداء مضمر تقديره هم أموات، ويجوز أن يكون خبراً لقوله ‏{‏والذين‏}‏ بعد خبر في قوله ‏{‏لا يخلقون‏}‏ ووصفهم بالموت مجازاً‏.‏ وإنما المراد لا حياة لهم، فشبهوا بالموت، وقوله ‏{‏غير أحياء‏}‏ أي لم يقبلوا حياة قط، ولا اتصفوا بها‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وعلى قراءة من قرأ «والذين يدعون» فالياء على غيبة الكفار، يجوز أن يراد بالأموات الكفار الذين ضميرهم في «يدعون»، شبههم بالأموات غير الأحياء من حيث هم ضلال غير مهتدين، ويستقيم على هذا فيهم قوله ‏{‏وما يشعرون أيان يبعثون‏}‏ و«البعث» هنا هو الحشر من القبور، و‏{‏أيان‏}‏ ظرف زمان مبني، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي «إيان» بكسر الهمزة، والفتح فيها والكسر لغتان، وقالت فرقة‏:‏ ‏{‏وما يشعرون‏}‏ أي الكفار ‏{‏أيان يبعثون‏}‏ الضميران لهم، وقالت فرقة‏:‏ وما يشعر الأصنام أيان يبعث الكفار‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ويحتمل أن يكون الضميران للأصنام، ويكون البعث الإثارة، كما تقول بعثت النائم من نومه إذا نبهته، وكما تقول بعث الرامي سهمه، فكأنه وصفهم بغاية الجمود أي وإن طلبت حركاتهم بالتحريك لم يشعروا لذلك‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وعلى تأويل من يرى الضمير للكفار ينبغي أن يعتقد في الكلام الوعيد، وما يشعر الكفار متى يبعثون إلى التعذيب، ولو اختصر هذا المعنى لم يكن في وصفهم بأنهم «لا يشعرون وأيان يبعثون» طائل، لأن الملائكة والأنبياء والصالحين كذلك هم في الجهل بوقت البعث، وذكر بعض الناس أن قوله ‏{‏أيان يبعثون‏}‏ ظرف لقوله ‏{‏إلهكم إله واحد‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 22‏]‏ وأن الكلام تم في قوله ‏{‏وما يشعرون‏}‏، ثم أخبر عن يوم القيامة أن الإله فيه واحد وهذا توعد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 25‏]‏

‏{‏إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ ‏(‏22‏)‏ لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ ‏(‏23‏)‏ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏24‏)‏ لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ‏(‏25‏)‏‏}‏

لما تقدم وصف الأصنام جاء الخبر الحق بالوحدانية، وهذه مخاطبة لجميع الناس معلمة بأن الله تعالى متحد وحدة تامة لا يحتاج لكمالها إلى مضاف إليها، ثم أخبر عن إنكار قلوب الكافرين وأنهم يعتقدون ألوهية أشياء أخر، ويستكبرون عن رفض معتقدهم فيها، واطراح طريقة آبائهم في عبادتها، ووسمهم بأنهم لا يؤمنون بالآخرة إذ هي أقوى رتب الكفر، أعني الجمع بين التكذيب بالله تعالى وبالبعث، لأن كل مصدق يبعث فمحال أن يكذب بالله، وقوله ‏{‏لا جرم‏}‏ عبرت فرقة من النحويين عن معناها بلا بد ولا محالة، وقالت فرقة‏:‏ معناها حق أن الله، ومذهب سيبويه أن ‏{‏لا‏}‏، نفي لما تقدم من الكلام، و‏{‏جرم‏}‏ معناه حق ووجب، ونحو هذا، هذا هو مذهب الزجاج، ولكن مع مذهبهما ‏{‏لا‏}‏ مُلازمةٌ ل ‏{‏جرم‏}‏ لا تنفك هذه من هذه، وفي ‏{‏جرم‏}‏ لغات قد تقدم ذكرها في سورة هود، وأنشد أبو عبيدة‏:‏ / جرمت فزارة / وقال معناها حقت عليهم وأوجبت أن يغضبوا، و‏{‏أن‏}‏ على مذهب سيبويه فاعلة ب ‏{‏جرم‏}‏، وقرأ الجمهور «أن»، وقرأ عيسى الثقفي «إن» بكسر الألف على القطع، قال يحيى بن سلام والنقاش‏:‏ المراد هنا بما يسرون مشاورتهم في دار الندوة في قتل النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله ‏{‏إنه لا يحب المستكبرين‏}‏ عام في الكافرين والمؤمنين، فأخذ كل واحد منهم بقسطه، وفي الحديث «لا يدخل الجنة وفي قلبه مثقال حبة من كبر»، وفيه «أن الكبر منع الحق وغمص الناس» ويروى عن الحسن بن علي أنه كان يجلس مع المساكين ويحدثهم، ثم يقول ‏{‏إنه لا يحب المستكبرين‏}‏‏.‏ ويروى في الحديث «أنه من سجد لله سجدة من المؤمنين فقد برئ من الكبر» وقوله ‏{‏وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم‏}‏ الآية، الضمير في ‏{‏لهم‏}‏ لكفار مكة، ويقال إن سبب الآية كان النضر بن الحارث، سافر عن مكة إلى الحيرة وغيرها، وكان قد اتخذ كتب التواريخ والأمثال ككليلة ودمنة، وأخبار السندباد، ورستم، فجاء إلى مكة، فكان يقول‏:‏ إنما يحدث محمد بأساطير الأولين، وحديثي أجمل من حديثه، وقوله ‏{‏ماذا‏}‏ يجوز أن تكون «ما» استفهاماً، و«ذا» بمعنى الذي، وفي ‏{‏أنزل‏}‏ ضمير عائد، ويجوز أن يكون «ما» و«ذا» اسماً واحداً مركباً، كأنه قال‏:‏ أي شيء وقوله ‏{‏أساطير الأولين‏}‏ ليس بجواب على السؤال لأنهم لم يريدوا أنه نزل شيء ولا أن تم منزلاً، ولكنهم ابتدوا الخبر بأن هذه ‏{‏أساطير الأولين‏}‏، وإنما الجواب على السؤال، قول المؤمنين في الآية المستقبلة

‏{‏خيراً‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 30‏]‏ وقولهم‏:‏ ‏{‏أساطير الأولين‏}‏ إنما هو جواب بالمعنى، فأما على السؤال وبحسبه فلا، واللام في قوله ‏{‏ليحملوا‏}‏ يحتمل أن تكون لام العاقبة لأنهم لم يقصدوا بقولهم ‏{‏أساطير الأولين‏}‏ «ليحملوا الأوزار»، ويحتمل أن يكون صريح لام كي، على معنى قدر هذا، ويحتمل أن تكون لام الأمر، على معنى الحتم عليهم بذلك، والصغار الموجب لهم، و«الأوزار» الأثقال، وقوله ‏{‏ومن‏}‏ للتبعيض، وذلك أن هذا الواهن المضل يحمل وزر نفسه كاملاً ويحمل وزراً من وزر كل مضل بسببه ولا تنقص أوزار أولئك، وقوله ‏{‏بغير علم‏}‏ يجوز أن يريد بها المضل أي أضل بغير برهان قام عنده، ويجوز أن يريد ‏{‏بغير علم‏}‏ من المقلدين الذي يضلون، ثم استفتح الله تعالى الإخبار عن سوء ما يتحملونه للآخرة، وأسند الطبري وغيره في معنى هذه الآية حديثاً، نصه «أيما داع إلى ضلالة فإن عليه مثل أوزار من اتبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيء، وأيما داع دعا إلى الهدى فاتبع فله مثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم شيء» و‏{‏ساء‏}‏ فعل مسند إلى ‏{‏ما‏}‏، ويحتاج في ذلك هنا إلى صلة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 27‏]‏

‏{‏قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏26‏)‏ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ ‏(‏27‏)‏‏}‏

قال ابن عباس وغيره من المفسرين‏:‏ الإشارة ب ‏{‏الذين من قبلهم‏}‏ إلى نمرود الذي بنى صرحاً ليصعد فيه إلى السماء على زعمه، فلما أفرط في علوه وطوله في السماء فرسخين على ما حكى النقاش، بعث الله عليه رمحاً فهدمته، «وخر سقفه» عليه وعلى أتباعه، وقيل‏:‏ جبريل هدمه بجناحه وألقى أعلاه في البحر وانحقف من أسفله، وقالت فرقة أخرى‏:‏ المراد ب ‏{‏الذين من قبلهم‏}‏ جميع من كفر من الأمم المتقدمة ومكر ونزلت فيه عقوبة من الله تعالى، وقوله على هذا ‏{‏فأتى الله بنيانهم من القواعد‏}‏ إلى آخر الآية، تمثيل وتشبيه، أي حالهم بحال من فعل به هذا، وقالت فرقة‏:‏ المراد بقوله ‏{‏فخر عليهم السقف من فوقهم‏}‏ أي جاءهم العذاب من قبل السماء‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وهذا ينحو إلى اللعن، ومعنى قوله ‏{‏من فوقهم‏}‏ رفع الاحتمال في قوله ‏{‏فخر عليهم السقف‏}‏ فإنك تقول انهدم على فلان بناؤه وهو ليس تحته، كما تقول‏:‏ انفسد عليه متاعه، وقوله ‏{‏من فوقهم‏}‏ ألزم أنهم كانوا تحته‏.‏ وقوله ‏{‏فأتى‏}‏ أي أتى أمر الله وسلطانه، وقرأ الجمهور «بنيانهم»، وقرأت فرقة «بنيتهم»، وقرأ جعفر بن محمد «بيتهم»، وقرأ الضحاك «بيوتهم»، وقرأ الجمهور «السقْف» بسكون القاف، وقرأت فرقة بضم القاف وهي لغة فيه، وقرأ الأعرج «السُّقُف» بضم السين والقاف، وقرأ مجاهد «السُّقْف» بضم السين وسكون القاف، وقوله ‏{‏ثم يوم القيامة‏}‏ الآية، ذكر الله تعالى في هذه الآية المتقدمة حال هؤلاء الماكرين في الدنيا، ثم ذكر في هذه حالهم في الآخرة وقوله ‏{‏يخزيهم‏}‏ لفظ يعم جميع المكاره التي تنزل بهم، وذلك كله راجع إلى إدخالهم النار، وهذا نظير قوله ‏{‏ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 192‏}‏‏.‏ وقوله أين شركائي‏}‏ توبيخ لهم وأضافهم إلى نفسه في مخاطبة الكفار أي على زعمكم ودعواكم، قال أبو علي‏:‏ وهذا كما قال الله تعالى حكاية ‏{‏ذق إنك أنت العزيز الكريم‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 49‏]‏ وكما قال ‏{‏يا أيها الساحر ادع لنا ربك‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 49‏]‏‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والإضافات تترتب معقولة وملفوظاً بأَرَق سبب، وهذا كثير في كلامهم، ومنه قول الشاعر‏:‏

إذا قلت قدني قال تالله حلفة *** لتغني عني ذا إنائك أجمعا

فأضاف الإناء إلى حابسه، وقرأ البزي عن ابن كثير «شركاي» بقصر الشركاء، وقرأت فرقة «شركاءي» بالمد وياء ساكنة، و‏{‏تشاقون‏}‏ معناه تحاربون وتحارجون، أي تكون في شق والحق في شق، وقرأ الجمهور «تشاقونَ» بفتح النون، وقرأ نافع وحده بكسر النون، ورويت عن الحسن بخلاف وضعف هذه القراءة أبو حاتم، وقد تقدم القول في مثله في الحجر في ‏{‏تبشرون‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 54‏]‏، وقرأت فرقة «تشاقونّي» بشد النون وياء بعدها، و‏{‏الذين أوتوا العلم‏}‏ هم الملائكة فيما قال بعض المفسرين، وقال يحيى بن سلام‏:‏ هم المؤمنون وهذا الخطاب منهم يوم القيامة‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والصواب أن يعم جميع من آتاه الله علم ذلك من جميع من حضر الموقف من ملك أو إنسي، وغير ذلك، وباقي الآية بين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏28- 30‏]‏

‏{‏الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏28‏)‏ فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ‏(‏29‏)‏ وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏الذين‏}‏ نعت للكافرين في قول أكثر المتأولين، ويحتمل أن يكون ‏{‏الذين‏}‏ مرتفعاً بالابتداء منقطعاً مما قبله، وخبره في قوله ‏{‏فألقوا السلم‏}‏ فزيدت الفاء في الخبر، وقد يجيء مثل هذا، و‏{‏الملائكة‏}‏ يريد القابضين لأرواحهم، وقوله ‏{‏ظالمي أنفسهم‏}‏ حال، و‏{‏السلم‏}‏ هنا الاستسلام، أي رموا بأيديهم وقالوا ‏{‏ما كنا نعمل من سوء‏}‏ فحذف قالوا لدلالة الظاهر عليه، قال الحسن‏:‏ هي مواطن بمرة يقرون على أنفسهم كما قال ‏{‏وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 13‏]‏ ومرة يجحدون كهذه الآية، ويحتمل قولهم‏:‏ ‏{‏ما كنا نعمل من سوء‏}‏ وجهين، أحدهما أنهم كذبوا وقصدوا الكذب اعتصاماً منهم به، على نحو قولهم ‏{‏والله ربنا ما كنا مشركين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 2‏]‏، والآخر أنهم أخبروا عن أنفسهم بذلك على ظنهم أنهم لم يكونوا يعملون سوءاً، فأخبروا عن ظنهم بأنفسهم، وهو كذب في نفسه‏.‏ و‏{‏عليم بما كنتم تعملون‏}‏ وعيد وتهديد، وظاهر الآية أنها عامة في جميع الكفار، وإلقاؤهم السلم ضد مشافهتهم قبل، وقال عكرمة‏:‏ نزلت في قوم من أهل مكة آمنوا بقلوبهم ولم يهاجروا فأخرجهم كفار مكة مكرهين إلى بدر، فقتلوا هنالك فنزلت فيهم هذه الآية‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وإنما اشتبهت عليه بالآية الأخرى التي نزلت في أولئك باتفاق من العلماء، وعلى هذا القول يحسن قطع ‏{‏الذين‏}‏ ورفعه بالابتداء فتأمله والقانون أن ‏{‏بلى‏}‏ تجيء بعد النفي ونعم تجيء بعد الإيجاب، وقد تجيء بعد التقرير، كقوله أليس كذا ونحوه، ولا تجيء بعد نفي سوى التقرير، وقرأ الجمهور «تتوفاهم» بالتاء فوق، وقرأ حمزة «يتوفاهم» بالياء وهي قراءة الأعمش، قال أبو زيد‏:‏ أدغم أبو عمرو بن العلاء السلم «ما»، وقوله ‏{‏فادخلوا‏}‏ من كلام الذي يقول ‏{‏بلى‏}‏، و‏{‏أبواب جهنم‏}‏ مفضية إلى طبقاتها التي هي بعض على بعض، و«الأبواب» كذلك باب على باب، و‏{‏خالدين‏}‏ حال، واللام في قوله ‏{‏فلبئس‏}‏ لام التأكيد‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ وذكر سيبويه، رحمه الله، وهو إجماع النحويين قال‏:‏ ما علمت أن لام التأكيد لا تدخل على الفعل الماضي وإنما تدخل عليه لام القسم لكن دخلت على «بئس» لما لم تتصرف أشبهت الأسماء وبعدت عن حال الفعل من جهة أنها لا تدخل على زمان، و«المثوى» موضع الإقامة، ونعم وبئس إنما تدخلان على معرف بالألف واللام أو مضاف إلى معرف بذلك، والمذموم هنا محذوف، تقديره بئس المثوى ‏{‏مثوى المتكبرين‏}‏، و«المتكبر» هنا هو الذي أفضى به كبره إلى الكفر، وقوله ‏{‏وقيل للذين اتقوا‏}‏ الآية، لما وصف تعالى مقالة الكفار الذين قالوا أساطير الأولين، عادل ذلك بذكر مقالة المؤمنين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأوجب لكل فريق ما يستحق لتتباين المنازل بين الكفر والإيمان، و‏{‏ماذا‏}‏ تحتمل ما ذكر في التي قبلها، وقولهم ‏{‏خيراً‏}‏ جواب بحسب السؤال، واختلف المتأولون في قوله تعالى ‏{‏للذين أحسنوا‏}‏ إلى آخر الآية، فقالت فرقة‏:‏ هو ابتداء كلام من الله مقطوع مما قبله، لكنه بالمعنى وعد متصل بذكر إحسان المتقين في مقالتهم، وقالت فرقة‏:‏ هو من كلام الذين ‏{‏قالوا خيراً‏}‏ وهو تفسير للخير الذي أنزل الله في الوحي على نبينا خبراً أن من أحسن في الدنيا بطاعة فله حسنة في الدنيا ونعيم في الآخرة بدخول الجنة، وروى أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إن الله لا يظلم المؤمن حسنة يثاب عليها الرزق في الدنيا ويجزى بها في الآخرة» وقد تقدم القول في إضافة «الدار» إلى الآخرة وباقي الآية بين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 32‏]‏

‏{‏جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ ‏(‏31‏)‏ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏32‏)‏‏}‏

‏{‏جنات عدن‏}‏ يحتمل أن يرتفع على خبر ابتداء مضمر بتقدير هي جنات عدن، ويحتمل أن يرتفع بقوله ‏{‏ولنعم دار المتقين‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 30‏]‏ ‏{‏جنات عدن‏}‏ ويحتمل أن يكون التقدير، لهم جنات عدن، ويحتمل أن يكون ‏{‏جنات‏}‏ مبتدأ وخبره ‏{‏يدخلونها‏}‏، وقرأ زيد بن ثابت وأبو عبد الرحمن «جناتِ» بالنصب، وهذا نحو قولهم زيد ضربته، وقرأ جمهور الناس «يدخلونها»، وقرأ إسماعيل عن نافع «يُدخَلونها» بضم الياء وفتح الخاء، ولا يصح هذا عن نافع، ورويت عن أبي جعفر وشيبة بن نصاح، وقوله ‏{‏تجري من تحتها الأنهار‏}‏ في موضع الحال وباقي الآية بين‏.‏ وقرأ الجمهور «تتوفاهم» بالتاء، وقرأ الأعمش «يتوفاهم» بالياء من تحت، وفي مصحف ابن مسعود «توفاهم» بتاء واحدة في الموضعين، و‏{‏طيبين‏}‏ عبارة عن صلاح حالهم واستعدادهم للموت، وهذا بخلاف ما قال في الكفرة ‏{‏ظالمي أنفسهم‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 28‏]‏، والطيب الذي لا خبث معه، ومنه قوله تعالى ‏{‏طبتم فادخلوها خالدين‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 73‏]‏ وقول الملائكة‏:‏ ‏{‏سلام عليكم‏}‏، بشارة من الله تعالى، وفي هذا المعنى أحاديث صحاح يطول ذكرها وقوله ‏{‏بما كنتم تعملون‏}‏ أي بما كان في أعمالكم من تكسبكم، وهذا على التجوز، علق دخولهم الجنة بأعمالهم من حيث جعل الأعمال أمارة لإدخال العبد الجنة، ويعترض في هذا المعنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا يدخل الجنة أحد بعمله» قالوا‏:‏ ولا أنت يا رسول الله، قال‏:‏ «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل منه ورحمة» وهذه الآية ترد بالتأويل إلى معنى الحديث‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ ومن الرحمة والتغمد، أن يوفق الله العبد إلى أعمال برة، ومقصد الحديث نفي وجوب ذلك على الله تعالى بالعقل، كما ذهب إليه فريق من المعتزلة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 35‏]‏

‏{‏هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏33‏)‏ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏34‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ‏(‏35‏)‏‏}‏

‏{‏ينظرون‏}‏ معناه ينتظرون، ونظر متى كانت من رؤية العين فإنما تعديها العرب ب «إلى»، ومتى لم تتعد ب «إلى» فهو بمعنى انتظر، كما قال امرؤ القيس‏:‏

فإنكما إن تنظراني ساعة *** من الدهر تنفعني لدى أم جندب

ومنه قوله تعالى حكاية ‏{‏انظرونا نقتبس من نور‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 13‏]‏ وقد جاء شاذاً نظرت بمعنى الرؤية متعدياً بغير إلى كقول الشاعر‏:‏

باهرات الجمال والحسن ينظر *** ن كما تنظر الأراك الظباء

وقرأ الجمهور «تأتيهم» بالتاء من فوق، وقرأ حمزة والكسائي «يأتيهم» بالياء، وهي قراءة يحيى بن وثاب وطلحة والأعمش، ومعنى الكلام أن تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم ظالمي أنفسهم، وقوله ‏{‏أو يأتي أمر ربك‏}‏ وعيد يتضمن قيام الساعة أو عذاب الدنيا، ثم ذكر تعالى أن هذا كان فعل أسلافهم من الأمم، أي فعوقبوا ولم يكن ذلك ظلماً لأنه لم يوضع ذلك العقاب في غير موضعه، ولكن ظلموا أنفسهم بأن وضعوا كفرهم في جهة الله وميلهم إلى الأصنام والأوثان، فهذا وضع الشيء في غير موضعه، أي آذوها بنفس فعلهم، وإن كانوا لم يقصدوا ظلمها ولا إذايتها، وقوله ‏{‏فأصابهم سيئات ما عملوا‏}‏ أي جزاء ذلك في الدنيا والآخرة‏.‏ ‏{‏وحاق‏}‏ معناه نزل وأحاط، وهنا محذوف يدل عليه الظاهر من الكلام، تقديره جزاء ‏{‏ما كانوا به يستهزئون‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقال الذين أشركوا‏}‏ الآية، جدل من الكفار، وذلك أن أكثر الكفار يعتقدون وجود الله تعالى وأنه خالقهم ورازقهم، فإن كان أهل هذه الآية من هذا الصنف فكأنهم قالوا يا محمد‏:‏ نحن من الله بمرئ في عبادة الأوثان لتنفع وتقرب زلفى، ولو كره الله فعلنا لغيره منذ مدة، إما بإهلاكنا وإما بهدايتنا، وكان من الكفار فريق لا يعتقد وجود الله تعالى، فإن كان أهل هذه الآية من هذا الصنف فكأنهم أخذوا الحجة على النبي صلى الله عليه وسلم من قوله، أي إن الرب الذي تثبته يا محمد وهو على ما تصفه يعلم ويقدر لا شك أنه يعلم حالنا، ولو كرهها لغيرها، والرد على هذين الفريقين هو في أن الله تعالى ينهى عن الكفر وقد أراده بقوم، وإنما نصب الأدلة وبعث الرسل ويسر كلًّ لما حتم عليه، وهذا الجدال من أي الصنفين فرضته ليس فيه استهزاء، لكن أبا إسحاق الزجاج‏:‏ قال إن هذا الكلام على جهة الهزء، فذهب أبو إسحاق رحمه الله والله أعلم إلى أن الطائفة التي لا تقول بإله ثم أقامت الحجة من مذهب خصمها كأنها مستهزئة في ذلك، وهذا جدل محض، والرد عليه كما ذكرناه وقوله ‏{‏فهل على الرسل إلا البلاغ المبين‏}‏ يشير إلى ما ذكرناه، وقولهم ‏{‏ولا حرمنا‏}‏ يريدون البحيرة والسائبة والوصيلة وغير ذلك مما شرعوه، وأخبر الله تعالى أن هذه النزعة قد سبقهم الأولون من الكفار إليها، كأنه قال‏:‏ والأمر ليس على ما ظنوه من أن الله تعالى إذا أراد الكفر لا يأمر بتركه، بل قد نصب الله لعباده الأدلة وأرسل الرسل منذرين وليس عليهم إلا البلاغ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 38‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ‏(‏36‏)‏ إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ‏(‏37‏)‏ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏38‏)‏‏}‏

لما أشار قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فهل على الرسل إلا البلاغ المبين‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 35‏]‏ إلى إقامة الحجة حسبما ذكرناه بين ذلك في هذه الآية، أي إنه بعث الرسل آمراً بعبادته وتجنب عبادة غيره، و‏{‏الطاغوت‏}‏ في اللغة كل ما عُبد من دون الله من آدمي راض بذلك، أو حجر أو خشب، ثم أخبر أن منهم من اعتبر وهداه الله ونظر ببصيرته، ومنهم أيضاً من أعرض وكفر ‏{‏فحقت عليه الضلالة‏}‏، وهي مؤدية إلى النار حتماً، ومنه من أدته إلى عذاب الله في الدنيا، ثم أحالهم في علم ذلك على الطلب في الأرض واستقراء الأمم والوقوف على عواقب الكافرين المكذبين، وقوله ‏{‏إن تحرص‏}‏ الآية، الحرص أبلغ الإرادة في الشيء، وهذه تسلية للنبي عليه السلام أي إن حرصك لا ينفع، فإنها أمور محتومة، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر والحسن والأعرج وأبو جعفر وشيبة ومجاهد وشبل ومزاحم الخراساني وأبو رجاء العطاردي وابن سيرين «لا يُهدَى» بضم الياء وفتح الدال، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «لا يهدي» بفتح الياء وكسر الدال، وهي قراءة ابن المسيب وابن مسعود وجماعة، وذلك على معنيين أي إن الله لا يهدي من قضى بإضلاله، والآخر أن العرب تقول هدي الرجل بمعنى اهتدى حكاه الفراء وفي القرآن ‏{‏لا يهدي إلا أن يهدى‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 35‏]‏ وجعله أبو علي وغيره بمعنى يهتدي، وقرأت فرقة «إن الله لا يَهدِي» بفتح الياء وكسر الهاء والدال، وقرأت فرقة «إن الله لا يُهدي» بضم الياء وكسر الدال، وهي ضعيفة، وفي مصحف أبي بن كعب، «إن الله لا هادي لمن أضل»، قال أبو علي‏:‏ الراجع إلى اسم ‏{‏إن‏}‏ مقدر في ‏{‏يضل‏}‏ على كل قراءة إلا على قراءة من قرأ «يَهْدِي» بفتح الياء وكسر الدال بمعنى يهدي الله، فإن الراجع مقدر في «يهدي»، وقوله ‏{‏وما لهم‏}‏ ضمير على معنى «من»، وتقول العرب حَرَص يحرص وَحَرص يحرُص والكسر في المستقبل هي لغة أهل الحجاز، وقرأ الحسن وإبراهيم وأبو حيوة بفتح الراء، وقرأ إبراهيم منهم، «وإن» بزيادة الواو، والضمير في قوله ‏{‏وأقسموا‏}‏ لكفار قريش، وذكر أن رجلاً من المسلمين حاور رجلاً من المشركين، فقال في حديثه‏:‏ لا والذي أرجوه بعد الموت، فقال له الكافر أونبعث بعد الموت‏؟‏ قال‏:‏ نعم، فأقسم الكافر مجتهداً في يمينه أن الله لا يبعث أحداً بعد الموت، فنزلت الآية بسبب ذلك، و‏{‏جَهْدُ‏}‏ مصدر ومعناه فغاية جهدهم، ثم رد الله تعالى عليهم بقوله تعلى ‏{‏بلى‏}‏ فأوجب بذلك البعث، وقوله ‏{‏وعداً عليه حقاً‏}‏ مصدران مؤكدان، وقرأ الضحاك «بلى وعدٌ عليه حقٌ» بالرفع في المصدرين، و‏{‏أكثر الناس‏}‏ في هذه الآية الكفار المكذبون بالبعث‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والبعث من القبور مما يجوزه العقل، وأثبته خبر الشريعة على لسان جميع النبيين، وقال بعض الشيعة إن الإشارة بهذه الآية إنما هي لعلي بن أبي طالب، وإن الله سيبعثه في الدنيا، وهذا هو القول بالرجعة، وقولهم هذا باطل وافتراء على الله وبهتان من القول رده ابن عباس وغيره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏39- 40‏]‏

‏{‏لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ ‏(‏39‏)‏ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ‏(‏40‏)‏‏}‏

اللام في قوله ‏{‏ليبين‏}‏ تتعلق بما في ضمن قوله ‏{‏بلى‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 38‏]‏ لأن التقدير «بلى يبعث ليبين»، وقيل هي متعلقة بقوله ‏{‏ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 36‏]‏ والأول أصوب في المعنى، لأن به يتصور كذب الكفار في إنكار البعث، وقوله ‏{‏إنما قولنا‏}‏ الآية، «إنما» في كلام العرب هي للمبالغة وتحقيق تخصيص المذكور، فقد تكون مع هذا حاصرة إذا دل على ذلك المعنى، كقوله تعالى ‏{‏إنما الله إله واحد‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 171‏]‏ وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم «إنما الربا في النسيئة» وقول العرب‏:‏ إنما الشجاع عنترة، فبقي فيها معنى المبالغة فقط، و‏{‏إنما‏}‏ في هذه الآية هي للحصر، وقاعدة القول في هذه الآية أن تقول، إن الإرادة والأمر اللذين هما صفتان من صفات الله تعالى القديمة، هما قديمان أزليان، وإن ما في ألفاظ هذه الآية من معنى الاستقبال والاستئناف إنما هو راجع إلى المراد، لا إلى الإرادة، وذلك أن الأشياء المرادة المكونة في وجودها استئناف واستقبال لا في إرادة ذلك ولا في الأمر به، لأن ذينك قديمان، فمن أجل المراد عبر ب ‏{‏إذا‏}‏ وب ‏{‏نقول‏}‏، ويرجع الآن على هذه الألفاظ فتوضح الوجه فيها واحدة واحدة، أما قوله ‏{‏لشيء‏}‏ فيحتمل وجهين‏:‏ أحدهما أن الأشياء التي هي مرادة وقيل لها ‏{‏كن‏}‏، معلوم أن للوجود يأتي على جميعها بطول الزمن وتقدير الله تعالى، فلما كان وجودها حتماً جاز أن تسمى أشياء وهي في حالة عدم، والوجه الثاني أن يكون قوله ‏{‏لشيء‏}‏ تنبيهاً لنا على الأمثلة التي تنظر فيها، أي إن كل ما تأخذونه من الأشياء الموجودة فإنما سبيله أن يكون مراداً وقيل له ‏{‏كن‏}‏ فكان، ويكون ذلك الشيء المأخوذ من الموجودات مثالاً لما يتأخر من الأمور وما تقدم وفني، فبهذا يتخلص من تسمية المعدوم شيئاً، وقوله ‏{‏أردناه‏}‏ منزل منزلة مراد، ولكنه أتى بهذه الألفاظ المستأنفة بحسب أن الموجودات تجيء وتظهر شيئاً بعد شيء، فكأنه قال إذا ظهر للمراد منه، وعلى هذا الوجه يخرج قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 105‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وليعلم اللهُ الذين آمنوا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 140‏]‏ ونحو هذا مما معناه، ويقع منكم ما رآه الله تعالى في الأزل وعلمه، وقوله ‏{‏أن نقول‏}‏ منزل منزلة المصدر، كأنه قال قولنا، ولكن ‏{‏أن‏}‏ مع الفعل تعطي استئنافاً ليس في المصدر في أغلب أمرها، وقد تجيء في مواضع لا يلحظ فيها الزمن كهذه الآية، وكقوله تعالى ‏{‏ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 25‏]‏ وغير ذلك، وذهب أكثر الناس إلى أن الشيء هو الذي يقال له، كالمخاطب، وكأن الله تعالى قال في الأزل لجميع ما خلق‏:‏ ‏{‏كن‏}‏ بشرط الوقت والصفة، وقال الزجاج ‏{‏له‏}‏ بمعنى من أجله، وهذا يمكن أن يرد بالمعنى إلى الأول، وذهب قوم إلى أن قوله ‏{‏أن نقول‏}‏ مجاز، كما تقول قال برأسه فرفعه وقال بيده فضرب فلاناً، ورد على هذا المنزع أبو منصور، وذهب إلى أن الأولى هو الأولى، وقرأ الجمهور «فيكونُ» برفع النون، وقرأ ابن عامر والكسائي هنا وفي يس، «فيكونَ» بنصبها، وهي قراءة ابن محيصن‏.‏

قال القاضي أبو محمد‏:‏ والأول أبعد من التعقيب الذي يصحب الفاء في أغلب حالها فتأمله، وفي هذه النبذة ما يطلع منه على عيون هذه المسألة، وشرط الإيجاز منع من بسط الاعتراضات والانفصالات، والمقصود بهذه الآية إعلام منكري البعث بهوان أمره على الله وقربه في قدرته لا رب غيره‏.‏